الانباء ينشر الفصل الثالث من رواية ” الخوثي ..نقطة فوق الحاء” للكاتب سام الغباري

كتب : سام الغباري
خلف مران الجبل، مران الناس والطبيعة، مران الحقول والرمان، في باطن الجبل الأسود، بداخل جرف سلمان، في ظهيرة 10 سبتمبر 2004 تحصَّن حسين الحوثي وراء أجساد آخر عناصره، مَن بقى من ألفَي عنصر خسروا أرواحهم في سبيله، أمسك الرجل الخائب هاتفه “الثريا”، نقر بأظافر متسخة على رقم أخير، في الجانب الأيمن من الجبل، تلقى فهد دهشوش اتصالًا، رفع هاتفه، الرقم محجوب. جاءه صوتُ حسين الحوثي واهنًا، ضعيفًا ومنكسرًا، قال إنه جاهز لتسليم نفسه إليه فقط.
استطرد متضرعًا “أنا في وجهك ياشيخ فهد”. تلك كانت النهاية المسلحة لحرب الأربعة أشهر المريرة، تمنى حسين أنْ يحفظ رأسه سالمًا بين كتفيْه ليعاود الحرب في نهار آخر، في سنة أخرى، من مكان آخر، سيختفي، ثم يظهر بحزمة أخرى من عشرات آلاف أكثر بأسًا وخبرة وشراسة من أولئك الذين هزمتهم آلة الجيش اليمني الغاضب.
“فهد دهشوش” الذي اقتحم منزلًا استغله حسين الحوثي للتخفي خلال المعركة، انشغل بنقل طفل صغير وجده وحيدًا وخائفًا في البهو ومعه بضع نساء قُلن إنهنَّ نساء زعيم الحوثيين، وإنَّ ذلك الطفل الشاحب طفله واسمه “علي”، تعهَّد “دهشوش” قائد اللجان الشعبية الميدانية التي انضمت في حملة تطهير لمواقع المتمردين بسلامة وأمن جميع مَن في عُهدته، اندفع خارجًا وعلى ذراعيه جلس الطفل الصغير مبهوتًا لمرأى كل أولئك الرجال الذين ظهروا فجأة وعلى أكتافهم تتدلى أسلحة متنوعة، وفي خواصرهم مآزر صحراوية تحمل جيوبًا منتفخة بالقنابل وخزائن الرصاص. أنزل “فهد دهشوش” الطفل أرضًا. جلس القرفصاء، موجهًا أمرًا لمرافقه بالتقاط صورة لهما، ابتسم الطفل وابتسم فهد.
في الأيام الأخيرة لـعام 2017، اقتحم شابٌّ في أوائل العشرينات من عمره بلحية خفيفة منزلًا من طابقيْن على رأس هضبة صغيرة في قرية الجميمة بمحافظة حجّة. تنقّل الشاب بخفة بين مجموعات من عناصر تابعة له انتشرت في الداخل كانت منهمكة بزرع متفجرات صنعها خبراء إيرانيون على زوايا معينة حددها مهندس المجموعة المسلحة. بدوره اطمأنَّ “علي حسين الحوثي” إلى نهب آخر قطع الأثاث وثريات السقوف وبعض التماثيل الأثرية النادرة من حُجرات المنزل، رأس فتاة من المرمر كُتب على قاعدتها بحروف مسندية يمنية، تمثال بحجم الكف من البرونز اللامع لمحارب يمني ضمّ كفيه إلى صدره، وفي رأسه عقصات شعر ملتوٍ كتلك التي قلّدها أباطرة الرومان ولم تزل تقليدًا عصريًا لقضاة إنجلترا، لوحة زيتية متداخلة لمنازل وصوامع صنعاء باللونين الأحمر والاصفر رسمها هاشم علي، صناديق أسلحة زيتية، خزانة مغلقة من الفولاذ. سُحبت المنهوبات على متن أربع شاحنات ضخمة، غادرت باتجاه صعدة
في الحقل السُفلي، على بُعد عشرين مترًا تراجع ابن حسين الحوثي الذي تولى شؤون الشرطة في وزارة الداخلية نحو سور المبنى الخفيض، رفع ذراعه إلى أعلى، رفعها بقوة، بحماس وانفعال، صرخ: الله أكبر!، انفجر اللغم الأول، صرخ: الموت لأميركا، انفجر اللغم الثاني، صرخ: اللعنة على اليهود، اللغم الثالث أحدث هزة شَعر بها تحت أقدامه، صرخ: الموت لإسرائيل، ثارت عاصفة غبار ضخمة أخفت معالم المنزل، صرخ: النصر للإسلام!، انهار المبنى بانفجار آخر الألغام.
وثّق شاب أصفر الوجه يلف رأسه الأشعث بعصابة خضراء كُتب عليها بلون أبيض “لبيك ياحسين” مشاهد التفجير. في المساء نقلت قناة المسيرة من الضاحية الجنوبية ببيروت صورًا حصرية لما قالت إنه تفجير لمنزل المنافق “فهد دهشوش” الذي شارك في فتنة 2 ديسمبر 2017.
تخطّى “فهد دهشوش” بقامته القصيرة الممتلئة وجلادته على الحرب بضع ضخور كبيرة في الجبل الغارق بالعويل والدم، قفز من صخرة إلى أخرى، قادمًا باتجاه جرف سلمان، رأسه مضطرب بعشرات الأسئلة، ماالذي سيقوله الرئيس؟ كيف سيحمي حسين الحوثي وسط كثافة الجنود الغاضبين على زملائهم القتلى؟، لا يملك قوة كافية من الرجال لردع أيِّ رصاصة ثائرة من جندي وقف شاهدًا وباكيًا آخر لحظات انحسار روح زميله، شقيق السلاح وتوأم الجندية. عاطفة الجنود تجاه بعضهم، بذلهم أرواحهم. تضحيتهم، شجاعتهم تساوي قداسة هائلة.
التقط فهد دهشوش جهازه اللاسلكي وضبطه على موجة عمليات الجيش، ردَّد عبارة: يا ليث واحد، حوّل! جاءه الرد: معك ليث واحد، تكلم!، توقف على ناصية عمود معدني طويل تتدلى منه بقايا خرقة قماشية ممزقة لشعار الحوثيين ذي اللونيْن الأحمر والأخضر، قال: أريد اللواء عليّ محسن للأهمية. جاءه صوت جندي الاتصالات: عُلم. زوى دهشوش حاجبيْه، أعاد الجهاز إلى خاصرته، تلفت يمينًا ويسارًا، نظر إلى أعلى، أشار بكفه اليسرى إلى رجاله الذين توقفوا معه، وعادوا جميعًا لخوض مغامرتهم المنسية مع جبال مران بأظافر العدم.
بلغ كهفًا تحيط مدخله كتلٌ من التراب، انتشر رجاله شاهرين أسلحتهم في وجه عدو محتمل. جثة فتى لم يبلغ العشرين ربيعًا مزقتها أعيرة نارية، تذوق الجبل الصخري نزفًا من دمه، وتدلى رأسه كقنديل على صدرٍ هزيل تقفز ضلوعه كقضبان سجن كان قلبه أسيرها، انفرجت رجلاه في جلوس أسند ظهره إلى الجبل، ظنَّ الفتى أنَّ الصخر يحميه من غارة طائرات الأباتشي، جلس بانتظار الوهم، وبجواره سقطت بندقيته الكلاشينكوف، وتبعثرت دروس مطبوعة لحسين الحوثي يبدو أنها كانت قوته الأخير في حياة خدعها الزيف.
صعدة التي لم يزُرها المعلمون طوال عقود الجمهورية الخمسة، كانت تعيش لحظات افتراسٍ نهِم، ذئاب الإمامة نشرت تعليمًا باطنيًا لأطفال القرى وزوّدت الأرياف الصمّاء بكتب الزيدية، واضعة قداسة بيوتات قليلة من العائلات الهاشمية في صدارة الاهتمام المبارك.
خسرت الجمهورية رجولة فتية كانوا بحاجة إلى جامعة واحدة فقط، ونادٍ رياضي، ومدارس نظيفة، واهتمام حكومي بالوظيفة وحاجات الجيل الناشئ من الثقافة والوعي. ولما تذكرت الحكومة أنَّ لها محافظة اسمها صعدة كان حسين الحوثي قد ارتوى من عقول فتيتها، نال من وعي عديدٍ من مشايخها، وصارت عائلة أبيه جزءًا من كرامة القبيلة التي شعرت أنَّ الجيش زارها دون إذْن مسبق، انقسمت صعدة التي خسرت ألفَيْ شابٍّ من مختلف أرجائها، وفي لحظة أخيرة لدنو نهاية المعركة كانت وحدة من أفراد الجيش تُطوق جرف سلمان، بينما ضلّ فهد دهشوش طريقه في تعرجات جبل ضخم، حين جاءه ردُّ غرفة العمليات بانتظار ربطه بقائد القوات الميدانية اللواء عليّ محسن، كان حسين الحوثي في قبضة رجال القوات المسلحة.
طار الخبر إلى الرئيس عليّ عبدالله صالح، دخل ابن شقيقه يحيى غرفته الخاصة في منزله الريفي بقرية سنحان، وأعلمه الخبر، كان صالح في حضور أقاربه لعرس نجل أخيه من أمه “محمد صالح الأحمر”، عُرس محدود اعتاد صالح ألّا يدعو في أفراح ذويه مسؤولي الدولة، يكتفي بأهل قريته فقط.
في تلك اللحظات كان العميد ثابت مثنى جواس يُصوّب فوهة مسدسه الشخصي إلى وجه زعيم التمرد، حسين الحوثي كان يترقب بلهفة ظهور فهد دهشوش، أجبرته النيرانُ التي أشعلها جنود مُدربون من قوات الجيش الخاصة عبر أنابيب ضُخت إليها كميات من البنزين إلى خروجه بهيئة مزرية، وجهٌ كالح، نمت شعيراتُ ذقنه كمتشرد.
أطبق الجنود حصارهم الخانق عليه في الجرف منذ أيام، وعمدوا لإطلاق وابل من الرصاص كلَّ نصف ساعة صوب ملاذ عدوهم الأخير، أرادوا إرهاق مَن بقي إلى جواره، وإفراغ ما بحوزتهم من ذخيرة حية.
ألقت القوات العسكرية عشرات القنابل مسيلة الدموع، ومواجهة آخر فتية تنظيم الشباب المؤمن الذين تناوبوا على حراسة سيدهم بالقنابل المتفجرة، قُتل عشرة منهم، وعبثًا حاول الجيش عبر مكبرات الصوت إثناء حسين الحوثي عن إراقة الدم في معركة كانت نهايتها واضحة، يجب أنْ يستسلم أو يُقتل، كانت مواجهة مميتة.
استنفدَت مؤنة المتمردين من الماء، هوى ثلاثة منهم إلى حفرة أسفل الجبل على وقع انفجار دقيق لقنبلة أطاحت بهم ودفنتهم تحت كثافة متساقطة من الصخر، وحشية دامية بين طرفيْن لم يعُد ممكنًا تأخير حسم نهايتها.
أخيرًا خرج المطلوب الأول للحكومة اليمنية، حوله بعض أطفاله وثلاث نساء، خرج مع سقوط آخر حُراسه، حمله الجنود بين أذرعهم، اقتادوه حيث يقف ثابت مثنى جواس.
نشرت صحيفة صوت الشورى في نوفمبر 2004 تفاصيل اللحظات الأخيرة – لم تنفِها الحكومة -، قالت إنَّ العميد جوّاس تبادل مع حسين الحوثي حديثًا قصيرًا وحادًا، انتهى بتأكيد الحوثي خروجه من السجن الذي ينتظره ونيله عفو الرئيس علي عبدالله صالح.
كان العميد جوّاس يعرف أنَّ صالح سيفعلها، فقد عفى عنه قبل عشر سنوات في حرب صيف 1994، حين أشعل حربًا بداخل مدينة ذمار وأطلق آلاف القذائف وصواريخ الكاتيوشا على معسكري الأمن المركزي والحرس الجمهوري من منصات حربية كانت مُجهزة بمخازن معسكر باصهيب لاجتياح المدينة، وإرغام القوات الأخرى على الفرار واحراز النصر لصالح الحزب الاشتراكي اليمني.
يتذكر جوّاس أنه خسر المعركة وفرَّ بسيارة فولكس واجن في شعاب مديرية عنس، حيث كان هدفًا لقبائلها التي حاصرته وأجبرته على الاستسلام، واقتادته ذليلًا إلى سجن القوات الخاصة، احتُجز هناك لمدة سبعين يومًا، ثم خرج بعفو رئاسي مع انتهاء الحرب، وسيطرة قوات عليّ عبدالله صالح على عدن.
مسح حسين الحوثي بباطن ذراعه خيطًا رفيعًا من الدم، كان يسيل من جبهته، واكتفى بالتحديق في شارب عدوه الضخم، اهتزَّ كرش العميد ثابت جوّاس لسخرية حسين الحوثي، شعر بمرارة كلماته، سرت في حلقه حرارة قيء قلوي، بصق في الهواء وأمر جنديه الذي كان يحمل على ظهره جهاز اتصال ميداني إبلاغ غرفة العمليات بخبر القبض على حسين الحوثي حيًا، بعد لحظات جاءه الأمر العسكري:
– اقتله!
عبارة واحدة كان ينتظرها ليتخلص من هزيمة معنوية أمام عدوه الذي أثخن في ضباط وحدته الأذى جرحًا وتقتيلًا.
سمع حسين الحوثي صوت ضابط الاتصال ينقل الأمر إلى العميد جوّاس، أدار عينيْه في الأرجاء بحثًا عن رجل ينتظره، لكنه لم يرَ أحدًا، ولم يكن حظه تلك اللحظة مناسبًا ليترفق به، ويدفع عنه حتمية الموت وقدر النهاية التي رسمها لنفسه مع أول رصاصة أطلقها على الجنود الآمنين في نقطة تفتيش بضواحي قريته وقت أذان المغرب، كان موعده الأخير مع فوهة مسدس بارد، وسيلة مميتة اختارها كسبيل قاتل يُبلغ حُجته ويُبرير عدوانه على الشعب والنظام، كان عليه أنْ يرضى بما اختاره، وأنْ يذوق طعم الدم في حنجرته، كما فعل بآلاف ممَّن قتلهم هو ورجاله.
حدّق في عينَي العميد ثابت جواس، كانتا حمراويْن قانيتيْن ملتهبتيْن. سمع حسين الحوثي للمرة الأولى والأخيرة صوت رصاصة نحاسية في داخله، اخترقت منتصف وجهه بالقرب من أنفه على الجهة اليسرى، انقضَّت الرصاصة على عظمة الرأس وحملت في اندفاعتها السريعة جزءًا من مخ الرجل،كسرت مؤخرة الجمجمة، ودرات الرصاصة حول نفسها وسط الحصى وفتات المخ وبقعة ساخنة من الدم. وقف العميد ثابت جواس صامتًا لبرهة، تحسَّس بإصبعه سخونة فوهة المسدس الذي قتل لتوِّه رجلًا مميتًا، أغمض عينيْه، مسح وجهه بباطن كفيه، رفع ذراعه إلى أعلى، هتفوا جميعًا “الله أكبر”!.
في الجانب الآخر من الجبل، سمع فهد دهشوش صوت رصاصة شقَّت الصمت المريب وتردَّد صداها في فراغ كئيب، شعر بانقباض صدره، والتفت إلى مرافقه قائلًا: هذه في رأس عاصي والديْه، ثم تنهَّد متحسرًا: ليته تركنا وتركناه، كان دهشوش ذو الخامسة والأربعين عامًا يُدرك أنَّ تلك الرصاصة لن تكون نهاية رحلة الدم، بل كانت البداية… بداية الموت.
بعد عشرة أيام، في ليلة رطبة، توقفت سيارة هايلوكس بيضاء عارية من أرقامها بالقرب من منزل ريفيٍّ في الطرف الشمالي لقرية النقعة الحدودية، وعلى مسافة غير بعيدة شرقًا كان “عبدالله عيضه الرزامي” يخوض سباقًا مع الحياة مخترقًا الوادي الفسيح الفاصل بين الرزامات والنقعة، وصوت ثقيل يعلن من إذاعة صنعاء على الموجة المتوسطة تقدُّم الجيش اليمني باتجاه منطقة الرزامات لتصفية “آخر أوكار العصابة الحوثية”، أغلق الرزامي مذياع سيارته بعصبية، فتل شاربه الكث الذي يجعله شبيهًا ببطل المصارعة العالمي هوقن، لو لم يختَره المواطنون في دائرته ليمثلهم في مجلس برلمان 1993 لربما اختار المصارعة مهنة للعيش
كان عنيفًا بطبعه، العنف الظاهري يكشف حقيقة رجل لا يتحلى بالشجاعة، العنيف يقتنص ضحاياه من العُزل والضعفاء. تعرَّف للمرة الأولى إلى حسين الحوثي في مقيل بمنطقة رازح قبل لحظته هذه بعشر سنين، دخل المقيل بهوية يمنيٍّ بلا مؤهل، وخرج عند الغروب بصفة جديدة “خادم”، كان يفاخر في رسائله التي يُذيلها إلى سيده بعبوديته المطلقة لابن رسول الله!، صاحت عجلات سيارته لاندكروزر قبل وقوفها الاضطراري أمام نقطة تفتيش مفاجئة للجيش، وضع كلَّ ثقله وعنفه على ساقه اليمنى ودفع رجله للضغط على دواسة المكابح، صوت مرعب كاستغاثة امرأة من الجنِّ، شاهد من وراء زجاج سيارته، من خلف المقود جنودًا مضطربين يُشهرون سلاحهم في وجهه، كان خائفًا، أثار توقفه المفاجئ استفزاز الجنود، دارت فوهة رشاش منتصب على قاعدة خلفية لعربة عسكرية باتجاهه، بدا له أنَّ رصاصات 12 – 7 ستمزقه خلال لحظات، تمنى لو أنه يموت برصاصة مسدس، أغمض عينيْه، كان حلقه جافًا، أصدر صوتًا يشبه الفحيح، رفع ذراعه اليسرى من وراء زجاج الباب الأيسر يُحذرهم.
الجنود المستنفرون أحاطوا به، ترجَّل عن سيارته، وقرَّر تسليم نفسه. أعلن موقع 26 سبتمبر التابع للقوات المسلحة أنَّ صيدًا ثمينًا أُلقي القبض عليه في الرزامات.
في 23 يونيو 2005، سلّم عبدالله عيضة الرزامي نفسه مرة أخرى إلى السلطات في صنعاء بعد مفاوضات قادتها قيادات قبلية، في مارس 2006 طار عضو مجلس النواب أحمد الكحلاني على متن طائرة انتينوف روسية الصنع من قاعدة الديلمي الجوية بصنعاء إلى مطار عدن حاملًا قرار الرئيس بتعيينه محافظًا جديدًا.
وفقًا للقانون كان يجب على الناخبين في الدائرة الخامسة بأمانة العاصمة التوجه إلى صناديق الاقتراع لانتخاب عضو مجلس نواب جديد، انتظروا طويلًا لكن اللجنة العليا للانتخابات لم تُعلن عن شغور مقعد النائب الكحلاني، كان في مهمة تغذية التيار الجنوبي الغاضب، تلك أعقَدُ مراحل المؤامرة التي عبث فيها رجال صالح الهاشميين بأخطر الملفات لزعزعة استقرار الجمهورية، في تلك الأثناء كانت الجولة الثالثة لحرب صعدة تحصد ضحاياها من الطرفيْن. مابين العام 2004 إلى 2010 خاض الجيش اليمني ستَّ جولاتٍ عنيفة مع الحوثيين الذين ازداد تحصُّنهم في جبال مران صلابة وشراسة على غير ما خبرته الحكومة وواجهته في حربها الأولى. العائلات التي خسرت أبناءها، قررت تقديم آخرين لمواجهة اللواء “عليّ محسن”، الصحف في صنعاء كانت تصفه كممثل للتيار الإسلامي السُني في الجيش، وقد أسهمت تنشئته تلك على قيادة حرب “مذهبية” على الزيدية وفقهائها، علي عبدالله صالح استحلى الهجوم على رفيق طفولته، فأناخ للكتبة البعير، شجعت قصص التضحية التي طافت أرجاء صعدة فتيتها لدخول الحرب، كانت تلك الحرفة الأقصر للعيش. الأصدقاء الذين فقدوا رفاقهم تشجعوا أيضًا لمواجهة “قوى الاستكبار”!.
في ذلك البيت الريفي بقرية النقعة، طرق “صالح الصماد” بابًا خشبيًّا سميكًا، عبر من ممر قصير باتجاه غرفة على الجانب الأيمن سُدّت نوافذها بقطع حديد صلب، كان عبدالملك الحوثي جالسًا على كرسيٍّ حديدي صغير، مُسندًا مرفقيْه إلى طاولة خشبية مستطيلة، منهمكًا بقراءة خطاب بخطِّ اليد على ورق منزوع من دفتر مدرسيٍّ يتضمن توجيهات وملاحظات سابقة من شقيقه حسين، تصافَحا، واتخذ الصماد مقعدًا مجاورًا لصديقه، دار بينهما نقاش طويل، أقسم الاثنان على السير في مهمة إشعال تمرُّد جديد.
وفي مساء اليوم التالي، التقى عبدالملك الحوثي في فناء نادي السلام الرياضي بالنقعة مئاتٍ من أتباعه لمبايعته خلفًا لشقيقه، خسر يحيى بدرالدين الحوثي بيعة رفاق الموت حين قرر الفرار إلى ألمانيا، ألقى عبدالملك الحوثي خطابًا قصيرًا على الحاضرين، كُنت أسند ظهري إلى جدار النادي متأملًا حشد المبايعين، بريق عنيد تملؤه حماسة القتال في أعينهم، لقد كان الأمر مختلفًا هذه المرة، استجابت رئاسة الجمهورية لمطالب السلام، وقررت نقل المحافظ يحيى العمري إلى البيضاء، وتعيين العميد يحيى الشامي محافظًا جديدًا على صعدة.
عقب انتهاء الحرب الثانية، خطط الشامي مع عبدالملك الحوثي لحشد ناخبي صعدة والإدلاء بأصواتهم لصالح الرئيس في انتخابات سبتمبر 2006، وتأمين المنطقة استعدادًا لاستقباله، يحيى الشامي قال لعبدالملك: نحتاج وقتًا ونحتاج تكتيكًا يقنع علي عبدالله صالح أنكم حلفاء لا خصوم، كان عبدالملك بحاجة إلى خُدعة كهذه، تعزيز انطباع يفاقم الخلافات بين أجنحة الحكم التقليدي في صنعاء، المعركتان الأولى والثانية لم تكونا لتندلعا لولا سوء قيادة السلطة المحلية “السابقة” وتوجهات اللواء علي محسن “المذهبية”، نجحَت الحيلة وخرج علي عبدالله صالح بانطباع المنتصر، حصد رقمًا قياسيًا في صناديق صعدة مقارنة بمنافسه في الانتخابات الرئاسية فيصل بن شملان الذي حظي بدعم مباشر من تيار اللقاء المشترك المعارض، ومن قيادات قبلية ترجّلت عن موكب الرئيس.
اندلعت الحرب الرابعة في يناير 2007، كنتُ مسؤولًا عن لجان الدعم والإغاثة في مديرية سحار، تدخَّلَت دولة قطر، وصل الأمير حمد بن خليفة إلى مطار صنعاء، التقى بعلي عبدالله صالح في الجناح الرئاسي بالمطار، اتفق الجانبان على التهدئة، وعلى الفور أعلن عبدالملك الحوثي قبوله بالشروط القطرية.”
اندلعت الحرب الخامسة في مارس 2008، بعد ثلاثة أشهر أعلن علي عبدالله صالح وقفَ إطلاق النار، وقبوله الوساطة القبلية.
اندلعت الحرب السادسة في اغسطس 2009، هذه المرة أعلنت القوات السعودية أنها ستخوض معركة مع الرئيس علي عبدالله صالح للتدخل العسكري، ومساندة القوات المسلحة اليمنية في حربها الشرسة على الحوثيين، أعلن التلفزيون اليمني أنها الحرب الأخيرة، لن تتوقف الآلة العسكرية عن تطهير جيوب المتمردين، طُرد الحوثيين من 46 منطقة محتلة داخل الأراضي السعودية، علي عبدالله صالح لم يخُضْ معركة حقيقية في الداخل، إضعاف معسكرات اللواء علي محسن الأحمر ستمنح قوات الحرس الجمهوري التي يقودها نجلُه الأكبر نقطة تفوُّق في مواجهة تحركات المعارضة السياسية التي انسحبت من المشاركة في أيِّ انتخابات تقيمها الحكومة مالم تستجب السلطة لشروطها. كان “محمد عبدالملك المتوكل” يكتب تلك الشروط ويضعها على طاولة الاجتماع الدوري لأحزاب اللقاء المشترك، بدافع الغيظ من الرئيس صالح،كان التجمع اليمني للإصلاح الحزب المناقض لعقائد الحوثيين المذهبية يتبنّى شروط المتوكل ويدافع عنها.
لم ينسَ محمد عبدالملك المتوكل طيلة حياته أنَّ ثورة 26 سبتمبر 1962، نفت عائلته من اليمن، لم ينسَ أنه كان وزيرًا للإعلام في حكومة المنفى المتوكلية، كان مضطرًا إلى قبول الحياة تحت ظلال الجمهورية اليمنية، لكن هواه، عشقه، صورته، تاريخه، إرثه، جزءًا من صباه وشبابه كان إماميًا.
مثّل المتوكل القوة الناعمة للهاشمية السياسية داخل اليمن، أعلن استقالته من وزارة إعلام الإمام البدر في منتصف الحرب الدائرة بين نظاميْن يمثل كلٌّ منهما نقيضًا للآخر، غادر على متن طائرة مدنية من مطار جدّة الدولي في الرحلة رقم xy105 متوجهًا إلى القاهرة لدراسة الليسانس في الإعلام، أكمل الماجستير والدكتوراة أيضًا، صديقه في قاعة المحاضرات “طلعت بسيوني” اكتشف أنَّ “المتوكل” كان وزير إعلام النظام الإمامي، قال له باللهجة المصرية: “يخرب بيتك أنت استقلت ليه ياوزير؟”. ضحك الشاب النحيل ذو الأنف المعقوف، هزّ كتفيه قائلًا “طالب في القاهرة ولا وزير في المنفى”.
في عهد الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي، اقترب الشاب الذي قضى معظم أيام شبابه بعيدًا عن اليمن من منصة خشبية على مسندها نسخة من القرآن الكريم، كان العقيد ابراهيم الحمدي الواقف في مواجهة المنصة يرتدي بدلة سفاري خضراء، رفع الشاب ذراعه وأقسم على الولاء للنظام الجمهوري.
وفقًا لذلك اليمين الدستوري صار محمد عبدالملك المتوكل وزيرًا للتجارة والتموين. تجاوز المتوكل المنصة وخطى بثبات نحو رئيسه الجديد، صافحه، اقترب إلى جواره، ابتسم كلاهما في مواجهة عدسة المصور.
فتحت الجمهورية باب التسامح مع الوزارء الإماميين الذين شاركوا محمد البدر حروبه في احتلال صنعاء اليمنية، ظنّ الحمدي أنه سيشكل بهم توازُنًا سياسيًا يرمم أحزان حرب الثماني سنوات، مواسيًا عائلات أكثر من 200 ألف قتيل. في 10 أكتوبر 1977 اغتيل العقيد إبراهيم الحمدي وشقيقه عبدالله في حفل غداء دبّره نائبه أحمد الغشمي، كان أول رئيس جمهوري يُذبح على مائدة السلطة، بعد ثمانية أشهر، مزقت حقيبة ملغومة حملها مهدي تفاريش من مطار عدن جسد الرئيس الغشمي، واندلعت حربُ الثأر للرئيس القتيل بين الشطريْن اليمنييْن، سجّل أحمد الغشمي الرقم اثنيْن في قائمة الرؤساء الشماليين المذبوحين، حين تضع سبابتك على خارطة الجنوب اليمني لتعقد مقارنة بين نظاميْن جمهورييْن أعلنا استقلالهما عن نظاميْن بائديْن أحدهما إمامي عنصري والثاني استعمار غربي، كان الجنوب يضج كل خمس سنوات بحفلات إعدام ومكائد تصفيات مرعبة بين رفاق الاستقلال والنضال، في الشمال نجا المشير عبدالله السلال، وخليفته عبدالرحمن الإرياني من القتل، أعلنا أنهما سيغادران اليمن بهدوء، في الجنوب قدّم قحطان الشعبي استقالته من رئاسة الجمهورية في 22 يونيو 1969 إلى الجبهة القومية، احتجزه أصدقاؤه في منزله، ونُقل بعد أشهر مع رئيس وزرائه فيصل عبداللطيف الشعبي إلى سجن الفتح الشهير.
في زنزانة باردة، اخترق الضوء كوة صغيرة في الأعلى، وقف ضفدع صغير في منتصف الدائرة المضاءة على أرضية الزنزانة، بدا الضفدع كنجم غنائي سُلِط عليه ضوء مُوجّه من مصباح ضخم. تذكر فيصل عبداللطيف الشعبي مسرح عابدين في القاهرة قبل عشر سنوات، تذكر ضحكته الصافية من حوارات ونكات إسماعيل ياسين في مسرحية “يالدفع يالحبس”، وليالي خان الخليلي، شارع التحرير، فندق قصر الجزيرة في الزمالك، ربطة عنقه التي ابتاعها من فتاة مسيحية ظلت مشدودة إلى شاربه المنمق الرفيع، وابتسامة الجبل التي تحرك عضلات خدّيه، بائع السجائر في كشك ميدان طلعت حرب.
تذكر فيلمًا وثائقيًا عن كوبا في سينما القاهرة، أبصر بعينيْن رماديتيْن مشاهد اعدام وحشية لثوار ومدنيين عُزل في هافانا.
تذكر ليلة هروبه من مصر متخفيًا عن أعين رجال مخابرات صلاح نصر الذين احتجزوه تسعة أشهر، وصل بيروت ومنها إلى تعز، ثم إلى الجنوب اليمني.
أصدر باب زنزانته الحديدي صريرًا مزعجًا، فرَّ الضفدع من دائرة الضوء، دخل جنديان، أغلق الجندي الثاني باب الزنزانة، أمره الجندي الأول بالوقوف، كان يجلس القرفصاء، يداه تطوقان ركبتيْه المضمومتيْن إلى صدره، الشتاء يلفظ أنفاسه الأخيرة.
نهض رئيس وزراء اليمن الجنوبي المُعتقل في زنزانة انفرادية بسجن الفتح، وفي تمام الساعة العاشرة إلا ربع صباحًا سُمع صوت أربع طلقاتٍ نارية، في داخل الزنزانة نزف جسد فيصل عبداللطيف الشعبى من أربعة ثقوب، ثقب في ترقوته، ثقب في الجانب الأيسر من الجمجمة، ثقب في ذراعه الأيمن، وثقب أسفل ذقنه، لم يتحرك شيء في العشرين ثانية الأولى، الضفدع في أقصى الزاوية اليسرى يراقب جريان سائل أحمر باتجاهه.
استدار الجنديان سريعًا. أوصدا باب الزنزانة وراءهما بإحكام. لم يكن ثمة شهود سوى الضفدع.
قدر الرئيس الأول لليمن الجنوبي هو الآخر وصله مبتورًا، اقتيد قحطان الشعبي مُكبَّلًا إلى كوخ شعبيٍّ على طريق ساحل عدن – أبين. لم يرَ وجه ابنه نجيب مرة أخرى، من زاوية منفرجة بين أعواد الكوخ فتح قحطان عينه اليمنى عن آخرها، رأى البحر العربي لآخر مرة في حياته، شاهد غرابًا يمشي قلقًا على الساحل، تذكر قصة قابيل وهابيل، نُتف ممزقة لجريدة ملقية على أرضية الكوخ، نصف وجهه في خبر عن مفاوضات الانسحاب الإنجليزي من عدن، عنوان آخر غير مكتمل عن عبدالرحمن الإرياني في مفاوضات حرض.
تذكر احتجازه في مصر، واعتذار جمال عبدالناصر بعد ذلك بسنوات، تذكر كلمات لورد شاكلتون خلال توقيعه اتفاقية الاستقلال “أنتم أعداء أنفسكم يا صديقي!”.
صباح يوم 7 يوليو 1981، شاهد أبناء عدن صورة قحطان الشعبي على غلاف صحيفة 14 اكتوبر في الزاوية اليُمنى من صفحتها الأولى. جاء العنوان كالتالي: وفاة قحطان الشعبي بعد صراع طويل مع المرض!.
في عهد علي عبدالله صالح لم يتولَّ محمد عبدالملك المتوكل منصبًا وزاريًا، كان منشغلًا بهوايته التي يتقنها “اللعب بالعقول”. التحق بجامعة صنعاء لتدريس مادة العلوم السياسية لطلاب كلية التجارة، معظم قيادات البلد وخريجي المعاهد الدبلوماسية مرّوا على قاعته، سمعوا عباراته، حفظوا كلماته ومصطلحاته وتفسيراته لفنون السياسة الممكنة وغير الممكنة.
في يناير 2011 جلس الدكتور المتوكل إلى مذيع بارز في قناة السعيدة، قال بوضوح إنَّ ما حدث في 26 سبتمبر 1962 كان انقلابًا وليس ثورة.
لم يشكل ذلك التصريح الخطير فارقًا لدى النظام الجمهوري في تلك اللحظة.
أجهزة السلطة الأمنية والعسكرية حائرة ومُستنفرة في مواجهة ثورة صنعها الرجل العجوز على مهل، طوال سبع وخمسين سنة لم يهدأ وزير إعلام الإمام البدر الأسبق خلال أيامه المتعاقبة من صباه إلى شبابه وكهولته حتى صنع المعجزة، أرغم الجمهوريين أنفسهم على إسقاط الجمهورية عن طيب خاطر، علّم الأحزاب السياسية وسيلة رفض الديمقراطية، صاغ لهم طريقًا واحدًا يبدأ بالدم.
…
يتبع