يوم القدس.. حتى لا تنخدع الأمة بشعارات محور المزايدة
كتب / عادل الأحمدي
رفع نظام خميني منذ انطلاقته في العام 1979، مسألة القدس وفلسطين كإحدى مفردات الخطاب الثوري، ولايزال ماضياً طيلة 42 عاماً على ذات النغمة محدِثاً اختراقات كبيرة في جسد القضية وأطرافها وتعريفها، وهو ما يسوّقه هذا النظام كإنجازات، ويراه آخرون بعينٍ مختلفة.
ومثلما تدعي إيران أنها باتت قائدة تيار المقاومة ضد “الاستكبار الأمريكي والكيان الإسرائيلي”، تنهض شواهد عدة وإن كانت أقل ضجيجاً، تضرب مثل هذا الطرح وتنسفه من أساسه.
ويمكن إيجاز هذا الرأي بالقول إن إيران أضرّت بالقضية الفلسطينية، عبر مسارين، الأول سياساتها العامة في المنطقة، والآخر تعاملها المباشر في الملف الفلسطيني. وفيما يتعلق بالأول، نجد أن تبعات حربها على العراق، وشروعها بغرس حركات وخلايا مسلحة داخل البلدان العربية تحت ما تسميه “مبدأ تصدير الثورة”، ثم اشتراكها المباشر في غزو بلدان عربية وإبادة وتهجير شعوبها كما حصل في العراق ثم سوريا وحتى اليمن.
كل ذلك، لم يكن بالتأكيد في صالح القضية الفلسطينية، بل بالعكس، ألحق بها كامل الضرر؛ إذ أثّر على كونها القضية المركزية للعرب وصرف جزءاً كبيراً من الاهتمام العسكري والسياسي والإعلامي لمواجهة خطر إيران.
علاوة على أن طهران عملت على شرخ الإجماع العربي حول القضية الفلسطينية بتقسيم المنطقة إلى محوري ممانعة واعتدال، وهو تقسيم ممعن في المزايدة.
إلى ذلك فإن طهران احتضنت العديد من جماعات التطرف والعنف كالهجرة والتكفير والقاعدة، واستنسخت مؤخرا داعش، كذريعة لتغيير ديمغرافي واسع في العراق والشام، علاوة على زرعها ودعمها عشرات الحركات الباطنية والمسلحة الموالية في أغلب الأقطار العربية. نتج عنها زعزعة أمن المنطقة وإدخالها في حالة استقطاب طائفي حاد بين شيعة وسنة.
وفيما يتعلق بتعاملها المباشر مع الملف الفلسطيني، فلم تتعاطَ إيران مع هذا الملف، إلا من قبيل المزايدة، ووفقا للباحث المصري معتز سلامة فإن إيران “لم تدخل إلى الصراع العربي الإسرائيلي من بوابة القيمة الإضافية لنضال العرب، بل من باب المنافسة عبر احتضان وتبني مسار عسكري موازٍ يتصادم في كثير من الأحيان مع الدولة الوطنية العربية”، وليس مع إسرائيل.
كما أن علاقة طهران بمكونات الداخل الفلسطيني، كانت بمثابة المقص الذي يقطع الأواصر بين هذه المكونات ويعمل على بذر أسباب الخلاف وديمومتها، إلى الحد الذي تجاوز الخطوط الحمراء وتوجّه السلاح الفلسطيني إلى الصدر الفلسطيني. هذا عوضاً عن أن إيران مثلما أسهمت ميليشياتها الطائفية في قتل وتشريد ملايين من العرب في أكثر من قطر عربي، فإنها قد قتلت من الفلسطينيين أعدادا غير قليلة. أولها في لبنان، حيث مذبحة صبرا وشاتيلا، والتي تعد الأكبر في تاريخ المذابح التي طالت الفلسطينيين، ونفذتها عناصر حركة أمل التابعة لإيران، والتي انسلخ منها لاحقاً، فصيل مكوناً حزب الله.
ويذهب الكاتب فهمي هويدي، في كتابه “إيران من الداخل”، أن خميني أراد بتخصيص أخر جمعة من رمضان يوماً سنوياً للقدس، تغطية المجازر التي ارتكبتها عصاباته بحق الفلسطينيين في لبنان.
عداً ذلك، فإن قتلى الفلسطينيين على يد ميليشيات إيران في العراق، بلغوا 16 ألف قتيل في ثلاث سنوات فقط، وفق مصادر عراقية. وسبق أن نقلت في كتابي “الزهر والحجر” الصادر 2006، تعليق فلسطينيين على الدعم الذي تقدمه طهران لحماس والجهاد الإسلامي، بأنه ليس إلا ديّات الفلسطينيين الذين قتلتهم ميليشيات إيران في العراق.
تخادم فارسي صهيوني
يذهب قسم آخر من الباحثين إلى أعمق مما سبق، ويرون أن نظام خميني، تأسس منذ بدايته للالتفاف على القضية الفلسطينية بعد أن فقد نظام الشاه الحليف التقليدي للكيان الإسرائيلي، قدرته على التأثير في الواقع العربي، وكذلك لاحتواء الزخم الإسلامي المتصاعد الذي لقي سوقاً رائجة بعد تراجع المد القومي بسبب نكسة حزيران يونيو 1967، وبالتالي تمت مساعدة خميني للإطاحة بالشاه وإعلان نظام “إسلامي” قام منذ اليوم الأول بإغلاق السفارة الإسرائيلية وتسليم مفاتيحها لمنظمة التحرير الفلسطينية، واتخذ من تحرير القدس شعارا، إلا أن تطورات متلاحقة جاءت تشير بمجموعها إلى أن العلاقة بين طهران وتل أبيب ظلت بعد ثورة خميني كما كانت عليه أيام الشاه، وأن كل الذي تغير هو الخطاب وملابس الحكام. والدليل على ذلك، تقول وجهة النظر، أن إسرائيل قامت بضرب المفاعل النووي العراقي في السنة الأولى من الحرب، ترجيحاً لكفة إيران، لكنها لم تمس مفاعل بوشهر النووي بسوء، بل لايزال الملف النووي الإيراني يستعمل إلى اليوم، كفزاعة لابتزاز الجوار العربي وتسهيل التواجد العسكري الغربي.
وفي منتصف الثمانينات كانت فضيحة “إيران كونترا”، دليلا إضافيا على زيف العداوة بين الحاخامات والملالي، حيث اشترت إيران من أمريكا أسلحة بواسطة إسرائيل. وكما أسلفنا فإن تبعات الحرب الإيرانية على العراق قد أدت لسلسلة شروخ وخسائر في الصف العربي.
بلغ التخادم الإيراني الإسرائيلي ذروته عقب الغزو الأمريكي الإيراني لبغداد 2003، حيث امتلأ وسط وشمال العراق بالشركات الاستثمارية الإسرائيلية، كما تفاضَحَ العديد من النواب العراقيين الموالين لطهران في أكثر من مناسبة بأن زياراتهم إلى تل أبيب لم تنقطع. وبالتزامن اتخذ بنيامين نتنياهو قرارا يشدد على منع نشر أي تفاصيل تتعلق بالتعاون الاقتصادي والعسكري والكيمائي مع إيران، لاسيما بعد فضيحة التاجر الإسرائيلي ناحوم منبار المتهم بتصدير مستحضرات كيمياوية إلى إيران، وهي القضية التي أثارها المحامي أمنون زخروني، الذي أراد أن يثبت أن منبار ليس الوحيد.
وبالعودة أكثر إلى الوراء، فإن نتنياهو نفسه، يذكر في كتابه “مكان تحت الشمس”، أن اليهود لا يزالون يحملون امتناناً عميقاً لإيران لأن الفرس أنقذوهم من السبي البابلي أواخر القرن السادس قبل الميلاد، وهو الأمر الذي يوضحه أكثر، اللواء المتقاعد مروان العمد، الذي يقول إن إسرائيل أطلقت اسم الملك الفارسي “كورش” الذي حرر اليهود من السبي البابلي على أحد شوارعها، وأن منظمة صهيونية غير رسمية صكت، مؤخرا، عملة رمزية رسمت على وجهها الملك الفارسي كورش وفي الوجه الآخر رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب بعد قرار الأخير نقل سفارة بلاده للقدس، تعبيرا عن الامتنان للرجلين. عدا عن احتفال سنوي يقيمه اليهود والفرس في 29 أكتوبر تشرين الأول من كل عام، إحياءً للمناسبة.
ويضيف اللواء العمد، في مقالة له بوكالة عمون، أن معاداة العرب هي السمة المشتركة بين الفرس واليهود، مستشهداً بمقطع فيديو لقاسم سليماني، يصف فيه العرب بأنهم بدوٌ همج. ويضيف العمد أن جزءاً من شيعة إيران لا ينظرون للقدس كما ننظر لها نحن، بل يعتبرون القدس التي أسري اليها النبي عليه الصلاة والسلام، موجودة في الجنة!
كل شيء وارد لدى نظام يعتبر التقية تسعة أعشار الدين. ولقد عاينت بنفسي أثناء مشاركتي بالأعوام الماضية، بمؤتمرات وندوات في جنيف وبروكسل وباريس، كيف يعمل اللوبي الإيراني والإسرائيلي كفريق واحد، لتبييض جرائم الحوثي ورمي اللائمة على التحالف العربي والحكومة الشرعية. وشواهد أخرى تجعل ممن يريد نفي التخادم الإسرائيلي الإيراني كمن ينكر الشمس في عز الظهيرة.
إن الدماء التي أريقت في الرمادي وحدها، على يد الإيرانيين، هي أضعاف ما ارتكبته الآلة الإسرائيلية في حق الفلسطينيين، ومساحة الرمادي تناهز فلسطين، ولم تتوقف آلة الموت والإبادة الإيرانية عند الرمادي بل استمرت وامتدت حتى نالت أكبر الحواضر البشرية في المنطقة الموصل وحلب وتعز.
وهذه المقارنة لا تقلل بنظرنا من بشاعة الصهاينة، ولا من مكانة فلسطين، لكنهم عدو واضح بينما إيران تقوم بهدم البيت الكبير ونخر أساساته، وثمة من يواليها من أجل غُرفة لن يبقى لها إذا انهدّ البيت، أرضيةٌ ولا سقف.
القدس ليست ميداليةً يعلّقها ناشط على نعش سفّاح، وليست سفارةً ينقلها رئيس متقلّب المزاج. ليست حصّالةً في جمعية خيرية، أو بنداً في مسودّة اتفاقيةٍ مستحيلة التنفيذ. ليست مفردةً يلُوكها مذيعٌ في ما وراء الخبر، ولا هي يوم يُزايد فيه أتباع الملالي نهاية كل رمضان. القدس هي هذا القبس الذي يربط الوجدان الممتد من الماء إلى الماء، هي التكثيف الأبرز لثلاثية الأنبياء والأرض والزمن.. هي هذا الميثاق الهاتف داخل كلّ قلب: أن كلّ دمٍ حرامٌ، وأن كلّ مدينةٍ قُدس.
– من مقالة بحثية مطولة