من كيقاوس إلى نخلا : مأرب تجرع إمبراطورية فارس أقسى الهزائم من قبل ألفي عام «تقرير»
قال عنها الباحث الأثري سانس، إنها سبقت في تمدنها مصر وبابل، وذكر المؤرخ البريطاني جون فيلبي، أنها ظلت طوال الألفي عام السابقة لظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم قوّة من القوى العظمى على الأرض. وأثارت تشريعاتها المتسمة بالنضح إعجاب الباحث فيليب حتي، الذي قال عنها “لم يكن في آثار القدم السحيقة ما يدانيها رقيا”.
وقبل هذا رسخ الله ذكرها في التوراة والإنجيل والقرآن، فتحدثت التوراة عن شبأ وسبأ، والإنجيل عن ملكة التيمن، والقرآن عن أرضها الطيبة وملكتها الحكيمة وقومها ذو البأس الشديد.
إنها حضارة سبأ التي وثقتها النصوص الأشورية، وتحدثت الكتب اليونانية عن امتداداتها وسط آسيا ومصر وأثيوبيا وبلاد الهند والصين، وتغنى التاريخ بانتصارات جيشها وشعبها في مواجهة الغزاة والدفاع عن الأمن القومي اليمني والعربي طيلة ثلاثة آلاف عام.
في هذا التقرير يلخص “الثورة نت” تاريخاً من الانتصارات حققها السبئيون – جيلًا بعد جيل- برزت فيه مأرب كقلعة حصينة تمزّقت على أسوارها جيوش الغزاة والطامعين، وتحطمت أمام صلابتها جيوش الفرس والرومان والأحباش.
ويخصص التقرير هذه المادة لمعارك سبأ مع الفرس منذ ألفي عام، وكيف استطاع السبأيون حماية مأرب من أن تدنسها أقدام الفرس ومرتزقتها، باستثناء حادثة وحيدة دنست أقدام فارسي أرض مأرب، وهي أقدام ملكها كيقاوس الذي اقتاده الملك شمر يهرعش أسيرا إلى مأرب من وسط إيران، وحبسه وسط بئر.
جيش الخميس السبئي
يقول الباحث خالد الفرح، إن السبئيين تميّزوا في الجانب العسكري ببناء الجيش النظامي المتمثل في الخميس السبئي والذي يتكون من 5 أجنحة (ميسرة وميمنة ومقدمة وقلب ومؤخرة) وهذا التقسيم هو سبب تسميته بـ(الخميس) وهو أسلوب متقدم في تشكيلات المعارك في ذلك الوقت، وما يزال متبع في تنظيم الجيوش الحديثة في الوقت الراهن.
ويضيف الفرح، في حديث مع “الثورة نت” أن هذا الجيش كان يتمتع بالقوة والبأس الشديد كما امتدحه القرآن الكريم، وكان خط الدفاع الأول عن النظام السياسي وكيان الدولة ، وكان يقوده إما القيل (مرتبة أقل من الملك) أو المقتوي (ضابط كبير يقود الجيش نيابة عن الملك)، وإلى جانبه القوات الشعبية الرديفة (غير النظامية) والتي كانت تسنده في معارك الدفاع عن البلاد ويقودها شخص يطلق عليه “كبير”.
والقوات الشعبية، وفق الفرح “ثقافة سبئية توارثتها الأجيال جيلًا بعد جيل، حيث كانت المقاومة الشعبية عبر التاريخ هي الرديف والسند للجيش النظامي في كل المعارك السيادية التي خاضها دفاعاً عن اليمن وسيادة اليمن بمدلوله الطبيعي والجغرافي القديم والحديث عندما تتعرض لأي خطر كان”.
هزيمة فارس
في عهد الملك شمر يهرعش 275– 312م بلغت الدولة السبأية أعلى مستويات القوّة والازدهار الحضاري، فيما اعتبر مؤرخون عصر شمر يهرعش هو بداية عصر الملوك التبابعة الذين وحدوا اليمن بمدلولها الواسع القديم، وشهد عهدهم ازدهار حضاري غير مسبوق في تاريخ المنطقة والعالم.
ويذكر نقش النمارة والنقش (31) أن الملك شمر يهرعش تصدى لحملة عسكرية لعمال الأكاسرة في الحيرة اللخميين وقادها امرؤ القيس اللخمي، حيث أجبر جيش يهرعش حملة عمال الأكاسرة على الانسحاب قبل المعركة.
ولم يكتف الملك يهرعش بتراجع حملة اللخميين، حيث يذكر النقش (31) أن ريمان ذي حزفر وعنان ريمان ذي حزفر رافقا الملك شمر يهرعش في حملته العسكرية لفتح بلاد فارس بما فيها (كوك- مركز مملكة فارس- وقط وصف وأرض تنوخ الخاضعة لنفوذ الفرس.
وهذا النقش يؤكد ما ذكره عدد من المؤرخين وفي مقدمتهم المؤرّخ الموسوعي نشوان الحميري عن فتح الملك شمر يهرعش لفارس وأسر ملكها (كيقاوس) واقتياده إلى اليمن وحبسه في بئر بمأرب، وقال الحميري، موثقًا هذه الهزيمة المذلة لفارس:
وأتـى بمالـك فـارسٍ كيقـاوسٍ
في القيد يعثـر مثخنـاً بجـراح
فأقام في بئرٍ بمأرب برهـةً
فـي لسجـن يجـأر معلنـاً بصيـاح
وتذكر المصادر التاريخية أن الملك شمر يهرعش، قد استجاب أبناء كيقاوس الذين قدموا إلى مأرب للشفاعة في أبيهم ، فأطلق سراحه ورده إلى بلده ملكًا عليها مقابل خراج يؤديه سنوياً إلى مملكة سبأ.
امتداد النفوذ السبئي
واستناداً إلى ما ذكره نقش ريمان ذي حزفر عن فتح بلدان فارس، فإن ذلك يعني أن النفوذ السبئي منذ عهد شمر يهرعش قد امتد إلى بلاد فارس وما بعدها.
ويقول الباحث الفرح، إن حملة شمر يهرعش ضد فارس كانت تأديبية ، ومن أهدافها حماية الأمن القومي اليمني، وتأمين المستوطنات التجارية اليمنية وطرق التجارة البرية والبحرية”.
وأضاف: “دولة فارس كانت تشكل خطراً على طرق التجارة اليمنية في مناطق نفوذها، لكن الملك يهرعش تمكن من إعادة النشاط التجاري إلى وضعه الطبيعي، وباتت اليمن من أكبر المراكز التجارية على مستوى العالم، وهذا ما أكده المؤرخون القدماء والمعاصرون”.
ويؤكّد عالم الآثار المصري الدكتور أبو العيون عبدالعزيز بركات، أن اليمن حينها كان “مركزاً تجارياً كبيراً يسيطر على التجارة وطرقها البرية والبحرية وكان اليمنيون وسطاء التجارة بين مصر وما بين النهرين والبنجاب” أي إلى أعماق آسيا وما وراء فارس.
معارك فاصلة مع الفرس
في القرن السادس الميلادي، كانت دولة فارس في أوج قوتها، بعد أن دانت لها الحيرة والبحرين وبعض مناطق الخليج، وكانت قد غزت اليمن وأحكمت سيطرتها على غالبية الأراضي اليمنية بزعامة باذان بن ساسان، إلا مأرب لم تخضع لها، فقد تبنت قبائل مذحج وعلى رأسها مراد خيار مُقاومة الغزاة واتحدت لمواجهة الفرس وأذنابهم وخاضت ثلاث معارك كبرى ضدهم داخل اليمن ، وأكثر من معركة خارجها وانتهت باندثار الإمبراطورية الفارسية إلى الأبد في معركة القادسية الشهيرة.
ويذكر باحثون أن أولى المعارك بين مذحج وعلى رأسها مراد ضد الفرس ومن ساندهم، حدثت في منطقة الرَّزم بالجوف عام 622م، والتي انتهت بوساطة قبلية لكنها قادت لثورات ضد الفرس والذين كان يطلق عليهم الأبناء.
ومراد هي القبيلة التي ينتمي إليها الصحابي الجليل فروة بن مسيك المُرادي ، وقيس بن مكشوح المُرادي، وخاله عمرو بن معد كرب الزُبيدي ، وهذان القيلان كانا من فرسان العرب المشاهير اللذان خاضا معارك العرب ضد الفرس.
وبعدها بسنوات انتفضت قبائل مراد لقتال الفرس في جولة جديدة انطلقت شمال الجوف مروراً بنجران وصولاً إلى معقلهم الرئيس صنعاء.
يقول الباحث بلال الطيب إن قيس بن مكشوح كانت له مهمة القيادة العسكرية في هذه المعركة وقد “توجه بالجُموع الثائرة صوب صنعاء، وهزم الفرس وحلفائهم شرَّ هزيمة، وقتل في شعوب كبيرهم شهر بن باذان”.
ولم ينقشع غبار هذه المعركة حتى بدأ قيس بن مكشوح المرادي، بالتخطيط لحملة عسكرية حاسمة لاقتلاع جذور بقايا الفرس من صنعاء، وتواصل مع القبائل اليمنية الرافضة لهيمنة الفرس ، ولم يمض كثيراً حتى أعلن ساعة الصفر وبدأت جموع قبائل اليمن الثائرة في التوافد إلى أطراف صنعاء استجابة لدعوته وغالبيتهم من قبائل مذحج ومراد، وبدأ الزحف لتطهير صنعاء من الغزاة وكان من جملة قتلى العدو الكاهن داذويه أحد رؤوس الغزاة الفرس، فيما لاذ “فيروز الديلمي” بالفرار والذي كان يسعى لدى ولاة المسلمين لأن يكون حاكماً على صنعاء، ونجحت الحملة في اعتقال الغزاة في صنعاء وكل اليمن وإجلاءهم منها وبسط سلطة اليمنيين الكاملة على أرضهم.
وذكر الطبري وابن كثير وابن خلدون، أن قيس بن مكشوح عمد إلى أبناء الفرس “ففرقهم ثلاث فرق، أقر فرقة منهم وأقر عيالهم (باعتبارهم قوات صديقة قاتلت مع سيف ضد الأحباش)، وأمر بالفرقة الثانية أن يحملوا في البحر، وسيّر الفرقة الثالثة في البر، وقال لهم جميعاً: الحقوا بأرضكم”.
وكانت أهداف حملة مراد بقيادة قيس ضد الفرس، تحمل أبعاداً وطنية وهو الأمر الذي تفهّمه خليفة المسلمين أبي بكر الصديق والذي انتصف لليمنيين بخلع “فيروز الديلمي” ومن حينها لم يعد للفرس سلطة على أي يمني.
الفتح الثاني لفارس
ولم تقتصر مأرب على محاربة الغزاة الفرس على أرض اليمن، بل كانت في طليعة جيوش قبائل اليمن التي لبّت نداء الإسلام والعروبة، وشاركت في جميع المعارك العربية ضد الفرس بدءً من معركة البويب ، وانتهاءً بمعركة القادسية التي أنهت حقبة أعتى الإمبراطوريات التي حكمت الشرق. وقد كان لمذحج والقبائل اليمنية القول الفصل في هذه المعركة التاريخية.
ويذكر المؤرخون أن عدد مقاتلي قبائل مذحج وعلى رأسها قبيلة مراد الذين شاركوا في معركة القادسية يزيد على 2500 مقاتل من أصل 10 آلاف مقاتل يقودهم فرسان اليمن وكانت ميمنة الجيش بقيادة الصحابي جرير بن عبدالله البجلي اليماني، والميسرة بقيادة قيس بن مكشوح المرادي وعمرو بن معد كرب الزبيدي.
وثبة السبئيين.. التاريخ يتكرر
واليوم تشّكل قبائل مأرب رأس حربة في المعركة الوطنية ضد الأطماع الفارسية وأذيالهم في اليمن، وصخرة صلبة تحطمت عليها مخططات الفرس، لتتكرر فصول التاريخ زماناً ومكاناً وأشخاصاً.
يقول الباحث خالد الفرح لـ”الثورة نت” إن مأرب هي أول عاصمة للدولة والحضارة اليمنية المجيدة وهي قلعة الصمود والمقاومة التي لا تقبل المساومة، فمنها تنطلق فيالق وأفواج الخميس السبئي لمواجهة الغزاة وهي البوصلة الوطنية التي حددت- بصمود وبطولة رجالها- المسار والمصير في كل معارك التحرير”.
مضيفاً: رجال مارب “موصوفون عبر التاريخ بأنهم أولو القوة والبأس الشديد، صلابة وإرادة لا فرق في ذلك بين كرب إلى وتر أو القردعي أو العرادة”.
ويضف الفرح، في حديثه لـ”الثورة نت”: منذ اصطفاف قبائل مأرب في المطارح السبئية عام 2015 لمواجهة مرتزقة الفرس باتت هي الحقيقة الناصعة التي أعادت إلى ذاكرتنا الجمعية وثبات السبئيين والتبابعة عبر تاريخ حضارة سبأ المجيد المنقوش على الصخور”..مؤكدا أنه “لا خوف على مارب اليوم فهي تاريخ من الانتصارات، بل أثبتت عبر تاريخها الطويل أنها لا تنتصر لنفسها ولكنها تنتصر لليمن كل اليمن بمدلولها الواسع القديم”.
نقلاً عن الثورة نت